لم نعد كما كنا ، أصبحنا نميل للعزلة ، مزاجنا أقرب للكآبة ، نشعر بالقلق .. بالهم .. بالعجز.. باليأس ، نميل للبكاء ، افتقدنا لروح المرح والسخرية ، تداهمنا الأفكار السلبية ، نشعر بالعجز عن إتخاذ قرار ، نهمل أنفسنا فنبدو أكثر حزنا ، يفقد بعضنا شهيته ويميل آخر للشراهة ، نشعر بالتعب من أقل مجهود ، تداهمنا مشكلة في التواصل مع الآخرين ، تتوه منا الكلمات ، نتجنب لقاء الآخرين والتحدث معهم ، نختلق الأعذار للتهرب من المشاركة في المناسبات الاجتماعية ، يصيب الضعف ذاكرتنا ، نشعر بالضآلة ويداهمنا الإحساس بالذنب ، ونفقد مع كل ذلك القدرة على التعبير عن الذات.
نكتشف في النهاية كما يشخص حالنا الأطباء أننا جميعا مصابون بدرجة أو بأخرى بإكتئاب يبدو عاما لايكاد أحد منا يسلم منه وإن أغفل وأنكر كثيرون أو حتى جهلوا الإصابة به ، فيصل ضعاف النفوس فينا حد الإنتحار.
يحاول بعضنا التخفيف من وطأة آلامنا ، يفتح قلبه للآخرين ، يستمع لشكواهم ، يشاركهم لحظات الضيق وتفاصيل الأزمات ، ينصت بإهتمام عله ينجح في تخفيف الأوجاع وتهوين الآلام وإزاحة الهموم.
نحاول قدر مافينا من جهد وطاقة وقدرة ، لكننا في النهاية نشعر أننا جميعا ندور في حلقة مفرغة ، وأن مانسمعه من هموم الآخرين هو صورة أخرى من همومنا ، تختلف التفاصيل لكننا بتنا في الهم سواء ، فلم يعد في في سماع مشاكل الآخرين ومعايشة بلواهم تخفيفا وتهوينا لمشاكلنا وبلاوينا وأزماتنا.
هم كبير يحاصرنا ، بين من يعانى من مرض عضال يحتاج علاجه بمايفوق قدرته ليصبح دوما أسير المحبسين ، وهن الجسد والعجز عن تحمل تكاليف العلاج .
ومن بيننا من هو مهموم بمصير الأبناء ، بعد أن تحولوا لرقم ينضم لملايين غيرهم ممن يعانون البطالة ، باءت كل محاولاتهم للبحث عن عمل بالفشل. حاول بعضهم التحايل على الأزمة بعمل مشروع صغير ، تحمل قروضا فاقت قدرته وعجز في النهاية عن السداد بعدما فشل المشروع ، ولم يحقق أي عائد مجز ..
وآخر مهموم بتكاليف زواج ابنته ، اقترض من كل من يعرفه وأصبح مطاردا من ذل الدين نهارا وهمه ليلا .
وملايين غيرهم يواصلون الليل بالنهار لتسديد أقساط شقة العمر التي باعوا للحصول عليها ، كل ما طالته أيديهم ليحققوا حلما بعيدا يحتاج تحقيقه لسنوات لن ينعموا بالراحة بعدها ، فما زالت عليهم أقساط أخرى واجب سدادها فضلا عن تكاليف تأثيث الشقة وتجهيزها.
وغيرهم يلهثون لتدبير مصاريف المدارس أوالمعافرة لشراء أحد الأجهزة ، بعدما أصاب فجأة العطب أحدها ، ليضرب أصحابها أخماسا في أسداس ويعيدوا حسبة ميزانية بيتهم المختلة دوما بفعل العلاج ، ويتحول الأمر لأزمة تخنق صاحبها لايعرف منها فكاكا.
مابين هموم ثقيلة وأخرى بسيطة يزيدها ضيق ذات اليد ثقلا ، نعيش جميعنا في أزمة .. يحاول أن يتجاوزها البعض بيقين أن بعد العسر يسرا , آخر يحاول أن يتعامل معها بلامبالاة على اعتبار أن ما باليد حيلة ، وآخر لايكف عن الشكوى علها تخفف قدرا من الضيق المكتوم ، وغيره من يسعى بشتى الطرق للهروب محملا قدر مايستطيع غيره عبء المسئولية ومواجهة الكرب .
تختلف ردود أفعالنا بعد أن بتنا جميعا أسرى لما أطلق عليه البعض مرض العصر ، قبل أن يفاجئنا العلماء بإكتشاف جديد يشير إلى أن الإكتئاب مرض قديم قدم الحضارة اليونانية القديمة "وفق مانشره اليوم السابع" ، حيث عثر علماء الآثار بين أنقاض مدينة أثينا القديمة ، التي يعود تاريخها للقرن الثانى قبل الميلاد ، على سبعمائة زجاجة صغيرة تحتوى على أدوية يعتقد أنها إستخدمت لعلاج الإكتئاب ، وأثبت تحليل بقايا الأدوية أنها مصنوعة من نباتات محلية تم إكتشافها أيضا أثناء عملية التنقيب وتم العثور على دواءين: الميثادون وهو مضاد للإكتئاب والفينانثرين المستخدم لعلاج أمراض القلب ..
لم يسلم الإنسان القديم إذا من مرض الإكتئاب ، ولم تحل الحضارة العريقة دون إعفائه من الوقوع أسيرا لهذا المرض ، لأنه ببساطة هناك دوما من يكدر صفو حياته يصيبه بالهم والحزن والمرض.
وبنظرة سريعة للحضارة اليونانية القديمة ورغم كل ما أنجزته من تقدم وإبهار في الفنون والعمارة والهندسة والفلسفة والطب والموسيقى والألعاب الرياضية ، إلا أنها حملت أيضا في طياتها بذور شقاء الإنسان وتعاسته ، فعانى كثيرون في ظلها من العبودية التي كانت شائعة في تلك الحقبة من الزمن ، وعانى المجتمع من التميز وقسمه المتخصصون لثلاث طبقات :- الأولى الطبقة الحاكمة التي تستحوذ على الحكم وتشرف على تسيير أمور البلاد - والطبقة الثانية هي طبقة الأحرار حيث لايخضعون لتحكم النخبة الحاكمة وهم من الأجانب الذين يمارسون الأنشطة التجارية والحرف اليدوية التي يترفع الوجهاء عن ممارستها - أما الطبقة الثالثة فهى طبقة العبيد والتي تقوم بخدمة طبقتى الأحرار والأجانب وهى محرومة من أية حقوق سياسية.
لم تكن أحوال أثينا السياسية أفضل كثيرا ، فعانت المدينة القديمة "كما رصد الباحثون" من سيطرة الفئات الغنية والأكثر نفوذا على القرارات السياسية ، وشهدت صراعا بين الجنرالات ، وحلت الفوضى وتمردت الطبقات الفقيرة على الطبقات الثرية ، كما إنتشرت العصابات في أغلب المدن فحل الضعف ، خاصة بعدما عانى إقتصاد المدينة من الإهمال فضلا عن سيطرة النخب الحاكمة على الأراضي ، إضافة إلى سيطرة المؤسسات السياسية على كل المجالات الإقتصادية ، ولم تعد تدار بشكل مستقل ، فضلا عن تهميش إحتياجات الفرد وأولوياته وأصبح للمجتمع الأفضلية على الفرد الذى أصبح وحده المسئول عن تدبير قوت يومه دون أدنى تدخل من الحكام لمساعدته في تلك المهمة التي باتت صعبة في ظل الظروف التي مرت بها المدينة في ذلك الوقت .. لم يكن غريبا أن تنهار الحضارة العظيمة بعدما تضافرت عوامل كثيرة لإضعافها ، ولم يكن غريبا أن يعانى الإنسان فيها من مرض الاكتئاب ، بعدما غابت العدالة وسادت العبودية وسيطرت النخب الحاكمة على كل مقدرات البلاد.
الإكتئاب إذا ليس مرض العصر ، فهو قديم قدم الظلم والإستبداد وغياب الحرية وضيق الحال والقهر.
------------------------------
بقلم: هالة فؤاد
من المشهد الأسبوعية